الخطبة الأولى ( القدس عربية إسلامية وستبقى )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين :
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (1) الاسراء
وروى الإمام أحمد في مسنده (حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِنَبِيِّ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم-…. ( ثم قال )
فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْمَسْجِدَ الأَقْصَى قَامَ يُصَلِّى ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا النَّبِيُّونَ أَجْمَعُونَ يُصَلُّونَ مَعَهُ فَلَمَّا انْصَرَفَ جِيءَ بِقَدَحَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنِ اليَمِينِ وَالآخَرُ عَنِ الشِّمَالِ فِي أَحَدِهِمَا لَبَنٌ وَفِى الآخَرِ عَسَلٌ فَأَخَذَ اللَّبَنَ فَشَرِبَ مِنْهُ فَقَالَ الَّذِى كَانَ مَعَهُ الْقَدَحُ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ ).
إخوة الإسلام
لقد سجل القرآن الكريم مكانة القدس الاسلامية في آيات بينات واضحات ، فقال الله تعالى : (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ) (1) الاسراء ،
وقد اختارت الإرادة الإلهية ،أن يكون الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى وصلاً للحاضر بالماضي ،وتقديرًا لمنزلة هذه البقعة المباركة التي عاشت عمرًا كبيرًا تنتشر على ظهرها الهداية، وتستقبل في رحابها النبوات، وظل بيت المقدس مهبطا للوحي الإلهي سنين عديدة، فلما عصى اليهود أمر ربهم ،وتنكروا لوحي السماء ،تحولت النبوة عنهم، وانتقلت إلى ذرية إسماعيل، وتحولت بالتالي القيادة الروحية إلى خاتم الأنبياء والمرسلين،
فانتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه البقعة المباركة تقديرًا لإخوانه السابقين من الأنبياء والمرسلين، وإعلانًا عن إكباره لهم ،وللدين الذي انتشر نوره وسناه في هذه البقاع المباركة؛
وقد جمع الله تعالى له الرسل السابقين فاستقبلوه وصلى بهم إمامًا
وهكذا كانت إمامة الرسول صلى الله عليه وسلم للأنبياء والمرسلين في هذا المكان المقدس إعلانًا لختم رسالات السماء، وأن رسالته خاتمة الرسالات ،ودستوره السماوي وهو القرآن ،هو كلمة السماء الأخيرة، وأنه صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين.
أيها المسلمون
فللمسجد الأقصى ارتباط وثيق بعقيدتنا الاسلامية ،وله ذكريات عزيزة وغالية على الإسلام والمسلمين، فهو مقر للعبادة ،ومهبط للوحي، ومنتهى رحلة الإسراء وبداية رحلة المعراج،
وفي هذا إعلان لعالمية الإسلام، وإعلان بأنه التشريع الخاتم والرسول الذي ختم الله به الأنبياء والمرسلين،
وإن حادث الإسراء والمعراج ليضع في أعناق المسلمين في كل الأرض أمانة القدس الشريف ، وأن التفريط فيه تفريط في دين الله، وسيسأل الله تعالى المسلمين عن هذه الأمانة إن فرطوا في حقها أو تقاعسوا عن نصرتها وإعادتها،
فعلينا أن نوحد جهودنا، وألا نتفرق ،لنكون بوحدتنا قوة إسلامية لا يستهان بها، ولا تضعف في المطالبة بحقوقها ، فطريق الوحدة ،هو طرق الحفاظ على مقدساتنا التي هي جزء من عقيدتنا وديننا.
أيها المسلمون
وكانت القدس وما زالت شرارة الثورات والهبات في وجه الغزاة على مدار التاريخ ، فهي تمتلك سرّ إشعال الثورات، وإيقاظ الضمائر، واستنهاض الهمم، وتوحيد الجهود لنصرتها بما تكتنزه من رمزية ومكانة وهبَها إياها ربّ السموات والأرض منذ فجر الخليقة، وكرّسها العرب الكنعانيون واليبوسيون فاشتقوا لها اسمًا من اسمهم فمن ذا الذي ينزع من القدس اسمها وهويتها بعد ذلك؟.
فأول من سكن القدس هم اليبوسيون من بطون العرب الكنعانيين من جزيرة العرب ، وكان ذلك قبل 3500 سنة قبل الميلاد ، وهذا هو الذي يشهد له التأريخ البشري ، ومن المتفق عليه بين المؤرخين ، حتى اليهود أنفسهم ، ولذا كان أقدم اسم سميت به فلسطين كنعان نسبة للكنعانيين العرب الذين قطنوها إبان ذاك ، ثم تصدى اليبوسيون للهجمات الشرسة من اليهود منذ ذلك الوقت ، بقصد الاستيلاء على القدس ، ولكن باءت محاولاتهم بالفشل ، فسكن العرب وهم سكان فلسطين الأصليون مع قبيلتي بنيامين ويهوذا من أسباط بني إسرائيل في أورشليم ، ثم توالت المحاولات من بني إسرائيل لإخراج العرب من بلادهم والسيطرة عليها ولكنها فشلت كسابقاتها ، فبقيت السلطة للعرب حقبة من الزمن ، يناضلون عن ديارهم ، ويدافعون عن مقدساتهم ،
وبقيت القدس تحت السيطرة العربية إلى عهد نبي الله داود عليه السلام ، حيث فتح بيت المقدس ، ثم بعد موته ، جاء ولده سليمان عليه السلام ، ليكمل الهيكل الذي بدأه أبوه ، وبعد أن اندثر ذلك الهيكل وانهدم ، وزالت معالمه تماماً ، إلا أنه لا يزال مسيطراً على أفكار اليهود ومعتقداتهم الدينية ،
وقد بشر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بفتح الشام وبيت المقدس ، ففي مسند أحمد وصححه الألباني
(عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
« سِتٌّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ مَوْتِى وَفَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ … )
لذلك كاد له صلى الله عليه وسلم اليهود العداء حتى حاولوا قتله مراراً وتكراراً ، ولكنهم باءوا بغضب من الله ولعنة .
ثم توالت الفتوحات الإسلامية في عهد نبي الرحمة والهدى سينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي عهد خلفائه الراشدين ، حتى كانت خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ،فتحت بلاد الشام ، فلما استسلم أهل (إيلياء / القدس) للمسلمين، اشترطوا عليهم ألا يسلموا مفاتيح القدس إلا لأمير المؤمنين عمر ، فجاء عمر رضي الله عنه، من المدينة المنورة ليتسلم مفاتيح القدس، ونزل رضي الله عنه عن بعيرِه، وخلع ما كان يلبس في قدمه، وأمسكهما بيده، وذلك لوجود بركة من الماء، وخاض الماء ومعه بعيره،
فقال له أبو عبيدة: قد صنعتَ اليوم صنيعًا عظيمًا عند أهل الأرض، صنعت كذا وكذا،
قال: فصكَّ في صدرِه، وقال: أَوَلَو غيرك يقولها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذل الناس، وأحقر الناس، وأقل الناس، فأعزَّكم الله بالإسلام، فمهما تطلبوا العز بغيره يذلكم الله،
ودخل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بيت المقدس، فصلى فيه تحية المسجد بمحراب داود، وصلى بالمسلمين فيه صلاة الغداة من الغد، فقرأ في الأولى بسورة “ص” وسجد فيها والمسلمون معه، وفي الثانية بسورة بني إسرائيل، ثم جاء إلى الصخرة فاستدلَّ على مكانها من كعب الأحبار، وأشار عليه كعبٌ أن يجعل المسجد من ورائه، فقال:
ضاهيتَ اليهودية، ثم جعل المسجد في قِبْليِّ بيت المقدس وهو العُمَري اليوم،
ونقل عمر التراب عن الصخرة في طرف ردائه وقبائه، ونقل المسلمون معه في ذلك،
ثم توالت الحروب للاستيلاء على فلسطين ، ولقد عادت السيطرة الصليبية على بيت المقدس حتى عام 583هـ ،
ثم هيأ الله تعالى للأمة رجلاً صالحاً عمل على توحيد الأمة الإسلامية تحت راية واحدة ، إنه صلاح الدين الأيوبي ، الذي انطلق لعملية الفتح الإسلامي ، فبعد معركة حطين ، توجه نحو عسقلان ، ومنها إلى القدس ، وفرض عليها حصاراً قوياً اضطر معه الصليبيون إلى الاستسلام ،
ولكن ما إن توفي البطل صلاح الدين الأيوبي حتى دب الخلاف فيمن بعده بسبب أطماع دنيوية ، ودسائس يهودية ، وخيانات سياسية ، فسلمت القدس مرتين للصليبين دون قتال .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( القدس عربية إسلامية وستبقى )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ونتيجة لبعد المسلمين عن دينهم ، وتفرق كلمتهم ، وشتات أمرهم ، وابتعاد دويلاتهم ، وحب الدنيا بينهم ، وقعت فلسطين تحت الحكم البريطاني عقب الحرب العالمية الأولى ، وكان ذلك فرصة كبيرة للهجمة العنصرية اليهودية المدعومة بالعون الصليبي ، حيث سهلت لهم بريطانيا سبيل الهجرة إلى فلسطين ، لأن بريطانيا ضاقت باليهود ذرعاً في بلادها ، نتيجة المكر والخيانة التي عُرفوا بها بين الشعوب العالمية ، فهيأت لهم بريطانيا الجو المناسب لتنظيم أنفسهم ، وتدريبهم على السلاح ،
وحاول المسلمون الوقوف في وجه اليهود وأعوانهم ، وكاد جهادهم أن يكلل بالنجاح ، لولا تخذيل بعض الحكومات ، ورفع يد المعونة والمساعدة عن المجاهدين ، وانحياز أمريكا إلى جانب اليهود ، حتى وقعت فلسطين تحت سيطرة اليهودية الآثمة منذ عام ألف وثلاثمائة وسبعة وستين للهجرة ، حيث أعلن اليهود عن إقامة دولة إسرائيل .
أيها المسلمون
هذا هو تاريخ القدس ، وتلك مكانتها ومنزلتها في الاسلام ، وهذا هو كفاحها وجهادها ضد المعتدين والمغتصبين على مر الأيام والسنين ،
وها نحن اليوم نرى ونسمع أن اليهود وحلفاءهم يريدون أن يتخذوا من القدس عاصمة لهم ، وهذا باطل لن يدوم ، وافتراء لن يطول ، فالقدس عربية اسلامية ، مهما يدعي هؤلاء ، ونحن موقنون أنها ستعود يوما إلى المسلمين ، بنا أو بغيرنا ، وستعود الخلافة الراشدة من جديد .
فيجب على المسلمين اليوم أن يتعاونوا جميعاً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم ، وعلى تباين دولهم وأجناسهم لرد القدس والبلاد العربية إلى أهلها , وصيانة المسجد الأقصى مهبط الوحي ومصلى الأنبياء الذي بارك الله حوله من دنس الغاصبين ،
فإذا كان المسلمون جميعاً ـ في الوضع الإسلامي ـ وحدة لا تتجزأ بالنسبة إلى الدفاع عن بيضة الإسلام , فإن الواجب شرعاً أن تجتمع كلمتهم لدرء هذا الخطر والدفاع عن البلاد واستنقاذها من أيد الغاصبين
وفي البخاري ومسلم (أن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم –
« تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى » .
وفي مسند البزار(خَطَبَنَا النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ ، فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، تَرَاحَمُوا ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأُذُنِي هَاتَيْنِ يَقُولُ :
الْمُسْلِمُونَ كَالرَّجُلِ الْوَاحِدِ ، إِذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ تَدَاعَى سَائِرُ جَسَدِهِ)
فها هي الصيحات والصرخات ، وها هي الاستغاثات والآهات تتدفق من هنا وهناك ، تنطلق من كل حدب وصوب من أرضنا الحبيسة المغتصبة ، إنها صرخات الثكالى ، إنها استغاثات الأيتام والأرامل ، وآهات كبار السن والرضع ، يشكون إلى الله تعالى ضعف حالهم ، وهوانهم على شعوب المسلمين ، فلا معين لهم ولا نصير ، ولا مساند ولا ظهير ،
الشيخ حامد إبراهيم
فإخوانكم من المسلمين في القدس المحتلة ينادون ، ويستغيثون ، إنها دماء تتدفق ، ودموع تنهمر ، وجراح لن تندمل ، وأحزان وأتراح لن تنجبر، إلا بعودة راية الاسلام على القدس ، وإقامة الصلوات فيه ، وفتح أبوابه للعاكفين والقائمين والركع السجود .